كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشوكاني في: نيل الأوطار: قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين.
وهو مروي عن عليّ وزيد بن عليّ والناصر والحنفية والشافعية، ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته، نعم، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلًا عند القائلين بحجية الإجماع، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم؛ أنه يجوز له أن ينكح أربعًا كالحر، حكى ذلك عنهم صاحب [البحر] فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء} والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما انتهى.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا} أي: بين هذه الأعداد.
{فَوَاحِدَةً} أي: فاختاروها، وقرئ بالرفع أي: فحسبكم واحدة.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر، ولا قسم لهن.
و(أو) للتسوية، أي: التخيير، والعدد يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة، قال الزمخشري: سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغَبًا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك، أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. انتهى.
{ذَلِكَ} أي: الاقتصار على واحدة أو على التسري: {أَدْنَى} أي: أقرب: {أَلاّ تَعُولُواْ} أي: من أن لا تميلوا ولا تجوروا.
لانتفائه رأسًا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر، هذا إن قدر (تعولوا) مضارع عال، بمعنى جار ومال عن الحق، وهو اختيار أكثر المفسرين.
ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله، قال في: [القاموس]: وعال فلان عولًا وعيالة: كثر عياله، كأعول وأعيل. انتهى.
وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي، قدس سره، في تفسيره حيث قال: أي: أقرب من أن لا تكثر عيالكم فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى. انتهى.
وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير: هاهنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري- فجوابه (كما قال الرازي) من وجهين:
الأول: ما ذكره القفال رَضِي اللّهُ عَنْهُ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضًا، وحينئذ تقل العيال، أما إذا كانت المرأة حرة، لم يكن الأمر كذلك، فظهر الفرق.
الثاني: أن المرأة إذا كانت مملوكة، فإذا عجز المولي عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها، أما إذا كانت حرة فلابد له من الإنفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة. انتهى.
تنبيهان:
الأولى: قال بعض المفسرين: دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق.
وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة، أن يتزوج أكثر.
وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة.
وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات.
وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة.
وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة.
الثاني: في سر ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها الإسلام وإصلاح النسل ما مثاله: ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلًا كريمة، هي على ما يرومه من الصفات، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته.
وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان، فضربوه ورقوه باختيار الأفحُل المناسبة، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري (16) مترًا في الثانية من الزمن، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة، ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان، بل تجاوز إلى النبات، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته، وانتفعوا انتفاعًا كبيرًا، ما تيسر لأسلافهم.
نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات، وعلموا ما فيه من الفوائد، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم، وجنوا ثمار ذلك السعي، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهم من كل ذلك: في إصلاح الحيوان الذكي، والشرير أكثر من الصالح، والجبان أكثر من الشجاع، والكاذب أكثر من الصادق، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضًا ويعيش مريضًا، فلا ينتفع بوجوده المجتمع، وهو كثير.
قام من بين هذا الجيل فيلسوفان: ألماني وإنكليزي، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبينة على البراهين وجوب إصلاح الإِنسَاْن لنسل الإِنسَاْن، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه، ويبيّنان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيرًا، وذكرا لذلك طرقًا:
(منها) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالبًا على شاكلتهم.
(ومنها) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم، وقالا: إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قرونًا عديدة كان نسل الإِنسَاْن الأخير، بحكم ناموس الوراثة، سالمًا من الأمراض، حسن الطوية، ليس فيه ميل إلى الشر، قويًا، ذكي الفؤاد، نابغًا في العلوم، التي يتعلمها، كأنه نوع أرقى من الإِنسَاْن الحاضر، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالًا بالفطرة إلى الخير ليس إلا، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك، وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة، فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع، ليكثر نسلهم، فيكثر عدد النابغين، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية.
وقد جعل رضاهن بذلك شرطًا أنه لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن.
والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال- وإن كان ذا زوجات أخر- على أن تكون زوجة لرجل أحمق، وإن اقتصر عليها، لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني.
وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة، لئلا يكثر نسلهم، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن.
والقدرة على العدل بين أربع من النساء، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه، والرجل النابغة، إذا تزوج بأكثر من واحدة، كثر نسله فكثر النوابغ.
والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب، كما يدلنا عليه التاريخ.
ثم خاطب الله، في مكان آخر، الخائفين أن لا يعدلوا بين الناس؛ وهم غير النوابغ من المسلمين، بقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}.
فأمرهم في هذه الآية، التي هي في المعنى تتمة للأولى، أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس، وحرم على هؤلاء، الذين لم يجوزوا المقدرة على العدل، التزوج بأكثر من واحدة، لئلا يقع سلم الارتقاء، ولئلا يكثر نسل غير النابغين، وهو الأهم، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط.
وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء} في الآية الأولى لعموم الأمة، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصة بالعادلين منهم، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم.
والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطًا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيًا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل.
بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات، ليكون أولادهم مثلهم نبوغًا أو أنبغ منهم، بحكم سنة الوراثة، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغًا مثل نبوغه، إلى حسن رائع، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه.
ولذلك قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء} ولم يقل وانكحوا من النساء، وفي قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل، الثلاث، فكأنه أراد أن لا يتجاوز، الذي قلّ نبوغه، الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز، الذي نبوغه متوسط، الاقتران بثلاث، وأن يحل، للذي نبوغه أعلى من الأولين، الاقترانُ بأربع.
وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة، لأنهم أناس لن يستطيعوا، مع كل حرصهم، أن يعدلوا بين النساء، لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ، هو محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولًا منه إلى البشر، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن.
وأظنك، بعد قراءة ما أوردت، تعترف، إن كنت من المنصفين، أن الإسلام جاء، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بسنّة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي، وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن، لأفراد نابغين من المسلمين، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين، للخائفين أن لا يعدلوا، ولغير الخائفين، ففسد النسل، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت، بحكم الجهل، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب، فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح. انتهى كلامه، وهو استنباط بديع. اهـ.